فاطمة بوساحة خسارة تطال الفنّ الشّعبي
لم يكن تاريخ السابع والعشرين من أكتوبر خمسة عشر وألفين بالتاريخ العادي في حياة التونسيين. فهو الموافق لتاريخ وفاة ملكة الفن الشعبي التي أغدقت كل من وفد إلى بيتها المفتوح للجميع بالكرم.هي فاطمة بوساحة أو كما لقّبها البعض "أومة" أو "بخته" وكلا التّسميتان تعنيان السّخاء والمن والكرم. هي أصيلة ولاية زغوان من مواليد اثني وعشرين جانفي اثنين وعشرين وتسعمائة وألف.
هي الفنانة التي أعطت من مالها ووقتها وصحتها للفن الشعبي وكرّست حياتها لإغاثة المحتاجين. فنانة رغم عطائها، قتلها شح ولامبالاة المسؤولين الّذين وبالرّغم من نداءات الاستغاثة التي وجّهتها للسّلط المعنية فقد اكتفوا بدرء البأس عنها ونعيها عندما وافتها المنيّة.
فاطمة بوساحة اسم وراءه صوت، تصطحبه قوة، تؤثّثه فِرْقَة موسيقيّة وكلمات من عمق الذّاكرة الشّعبية. هي الراّقصة والمغنيّة الّتي كانت بداياتها في أوائل التّسعينات مع فِرْقَة راقصة ترافق معلّمها الفنان الرّمز إسماعيل الحطّاب الّذي مهّد لها مجال دخولها الفن. كانت انطلاقتها في الميدان الشعبي من أروع الانطلاقات التي شهدتها السّاحة الفنيّة. عرفت نجوميّة برقيّة جعلتها تعتلي مسرح قرطاج في واحد وتسعين وتسعمائة وألف.
"بخته" أول صوت نسائي "عروبي" لن يكرّره التّاريخ"
في بوساحة قال الموسيقار سمير العقربي "هي زينة الأغنية الشّعبية وأوّل صوت نسائي ''عروبي'' لن يكرره التاريخ". إذ أنّ أولى خطى خطتها على درب الشّعبي "الفولكلوري" "الحضري" والّذي يسمّى "الملحون" كانت معه في عرض النّوبة بالتّعاون مع فاضل الجزيري. شكّل لقاء العقربي و بوساحة في عرض النوبة لوحة جمعت زخرف "الزّكرة" و"القصبة" ب"المزود" إلى جانب "الطّبلة" مع إيقاعات "الدّربوكة" التونسيّة التي كانت مقامات أغانيها على" الفزّاني" و"البدوي" و"الرّبوخ" و"المحيّر سيكا". هو القالب الموسيقي الذي يتغيّر فيه "الدّم "و"التّاك" مع كلّ انتقال في المقاطع الغنائيّة إذ يبدو ميزان الأغنية الشّعبية الّتي تقدّمها فاطمة بوساحة متنوّعة من حيث الأغراض والمقامات في جو فولكلوري متقن لا يلتزم بالقوالب الموسيقيّة الكلاسيكيّة على حدّ تعبير الموسيقي العقربي. وأضاف، لقد صاغت "بخته" أغانيها بأسلوبها الّذي سرعان ما دخل قلوب جماهيرها. كلمات أغانيها من الذّاكرة التّونسيّة الأصيلة منها والدّخيلة المصنوعة من قرائح البدو تنمقها إيقاعات وألحان وراقصات طالمَا صاحبن الفنانة الّتي تشاركهن خطوات الرّقص مرتدية لباس تقليدي تفرّدت به. هذا متمثّل في "الملية" أو "الحرام" تشدّه بمشبكين مع "الحلي التونسي" ولا ننسى "الحزام" الذّي زاد حلاوة فاطمة التي تعبق برائحة تونسيّة قحّة معطّرة بالأصالة الرّيفيّة التّونسيّة.
"مات المزود مع روّاده ... وما نتذوّقه اليوم ليس إلاّ انجرافًا وراء موضة رخيصة"
أشار مدير المعهد العالي للموسيقى جمال عبيد إلى افتقار الموسيقى للمزود. إن ما يروّج له اليوم هو ظرب من التّحريف للمزود الّذي نفض غبار الأصالة كي يرتمي في أحضان الحداثة الّتي أدخلت عليه الآلات الوتريّة والأورغ والّتي غيّبت الرّمزيّة التّراثية للمزود فغاب الأسلوب الارتجالي. أكّد جمال عبيد أنّ ركائز الأغنية الشّعبية قد ولّى زمانه ودفنت معهم القيمة الذّوقية للموسيقى. حسب بحوث المختصّين في المجال فإن الأغنية الشعبية بدأت تندثر شيئا فشيئا. يقول جمال عبيد : "إن فاطمة بوساحة رغم تقديري لها كإنسانة فإنها ساهمت في تمييع طرائق المزود وتحريفه نظرا لأهمية "الرّشق" و"العرابن" المغلّبة على قيمة الأغنية وذلك يظهر في قبولها لأي عرض في أي مكان يكفي أن يكون المبلغ والأجواء مهيأة فتنطلق السّهرة ويكون الفنّ آخر الاهتمامات الّذي يتلاشى شيئا فشيئا مع عتمة الليلة التي تشعل أضوائها بوساحة ليتهافت عليها المخمورين".
وحسب رأيه إن "ما يقدّمه لطفي جرمانه وأمال علام ووردة الغضبان وزينة القصرينية وحتى المطربة المرحومة فاطمة بوساحة و مصطفى الدّلاجي هو مجرّد استعراض غرضه الرّواج لا أكثر، أيّن كانت الطرق الّتي قد تكون في غالب الأحيان بأساليب رخيصة لا ترقى إلى منزلة الفنّ الشّعبي.
"إسماعيل الحطّاب أبو الأغنية الشّعبيّة وفاطمة بوساحة أمها"
أكملت بوساحة المشوار رغم الانتقادات ومظاهر القدح والذّم الّتي وجّهت لها فزيّنت رحلتها بأغان متفرّقة ومتنوّعة ظلّت تتردّد على مسامع التّونسيين حتّى بعد وفاتها. ألهمت مستمعيها بتواضعها وبإقبالها على الأفراح وحفلات الأعراس والمهرجانات. في اتصالي بزوجها عبد القادر بالواعر وهي، وهو عازف الطّبلة الّذي رافقها جلّ حفلاتها والّذي أكد على فرط إنسانية فاطمة بوساحة وحنانها وعطفها على ابنيهما اللذان تبنياهما حتّى آخر لحظات حياتها، يقول "إن كان إسماعيل الحطّاب أبو الأغنية الشّعبيّة فبوساحة أمّها". من أشهر أغانيها يا الرّبّة و "يا عمي الشّيفور" و "وين يبيعوا فيك" و"يا كرهبة كمال" و"يا أهلي غصبوني" و"هيا ماحلاها فيا" و"يا لواج عزروني" و "يا حوات" و "يا طيارة" و "سوق ودلالة و الرجالة" و "يصلح رأيك يا بوساحة" و "داني داني هالليلة" و "هي هي جبتو للثّنيّة هاللّيلة" و "يا تونس" و "يا علاّلة" و "ولد الرّميّة" و غيرها من الأغنيات التي خالجت المخيال الشعبي.
أغنية "مصابني شبّاك في حانوتك"
تبنّت أغانيها شركة أفريكا كاسات (شركة مفلسة اليوم) مع دعم وكيل أعمالها عبد الجبّارعلام فلاقت نجاحات أهّلت الفنّانة لاعتلاء سلّم النّجوميّة والشّهرة رغم أسلوبها الّذي يبدو للبعض أسلوبًا ريفيًا بدويًا جانحًا وغير راق. إلا أن فاطمة بوساحة لم تكن تعير الانتقادات الموجّهة لها أيّ اهتمام فقد ميّزها صوتها القويّ الصّلب عن غيرها حتّى صارت الفنانة الشّعبيّة الأولى في تونس التي كوّنت فرقتها المتآلفة من عازفين وراقصات. لكن مع طليعة الفنانة زينة القصرينية احتدت المنافسة بينهما خاصّة وأنّ بعض راقصات وعازفي فِرْقَة بوساحة انضموا إلى فِرْقَة القصرينيّة فباتت "بختة" تشكو الأسى واليأس وقسوة من حولها ولم يكن لها أي مواسي حتى نشلها الموت ولم يراعي حساسيتها المرهفة.
ظلت "أومّة" فاطمة بوساحة أجمل ذكرى في قلوب جماهير التّونسيين الّتي اقترن اسمها بالرّقي والأصالة والعطاء. تهافت الفنانون ووزارة الثقافة ونقابة الفنانين والناس من كل مكان على عزاءها فأعتبر موتها خسارة للفن. هاجر الأسلوب وهاجرت الحنّة وهاجر الحليّ حتى بسماتها ورقصاتها هاجرت هاجر زمانها وطلّتها ولم يبقى سوى صدى كلماتها وذكراها. هي ضحيّة للفنّ والشّهرة الّتي جادت للموسيقى بكل ما تسعه من مكنونات، إلا أنّ الزّخم الّذي يشهده الواقع الفني لم ينصفها ولو بردّ الاعتبار المعنوي لها في أخر طريقها الذي قضّته وهي تصارع محنة السّرطان. هذا المرض الّذي نهش جسدها وقسم قامتها الشامخة.