الموسيقى زمن تزاوج الوسائل التعبيرية القديمة والحديثة
ايحاءات من الجلسة التي جمعت السيّد رمزي العيّاري المنتج والمنشّط بإذاعة الثّقافة بطلبة ماجستير البحث في علوم الإعلام والاتّصال بمعهد الصّحافة وعلوم الإخبار يوم 12 أكتوبر 2017 برحاب المعهد.
عندما نفكّر اليوم في موضوع الموسيقى النّاجحة جماهيريّا، تتشابك في أذهاننا عديد المصطلحات والمفاهيم التي تصبّ في معظمها في تمجيد التّكنولوجيا كعامل رئيسيّ أصبح يقاس بواسطته مدى نجاح هذا العمل الموسيقيّ أو ذاك، خصوصا لمّا نتحدّث عن صناعة ثقافيّة تحكمها قاعدة العرض والطّلب، وسوق عالميّة ضخمة تحرّكها إرادات أصحاب رؤوس الأموال التي باتت تستثمر اليوم حتّى في الذّوق. فكما نتحدّث اليوم وبإطناب عن صناعات غذائيّة عالميّة عابرة للقارات في إطار العولمة، أصبحنا نتحدّث اليوم وضمن نفس الإطار عن صناعة أغنية تكتسح الأسواق وتفرض نفسها عنوة على الأذواق في إطار استراتيجيا اتّصاليّة ممنهجة في الغالب تحرّكها أطراف يجهل عنها المتلقّي الشيء الكثير ولا يعلم عنها سوى أنّها "حشرت" " منتوجا " فنّيّا ما في زمرة المنتوجات التي تغزو الأسواق يوميّا دون معرفة مصدرها ولا الأيادي الخفيّة التي تحرّكها.
ويبقى " المؤدّي" للأغنية هو الطّرف الوحيد تقريبا المعلوم ضمن سلسلة من الوسطاء. هؤلاء الوسطاء أصبحوا في عصر "الميديا الجديدة" متعدّدون. لم لا وقد أضحى نجاح الأغنية اليوم متوقّفا على مدى حبكتهم لسيناريو التّرويج عبر سياسة اتّصاليّة تكنولوجيّة تصنع مجد النّجم وتحوّله في ردح زمنيّ وجيز إلى ظاهرة العصر ونجم الموسم دون منازع حتّى لو كان ذلك ببضع كلمات لا تكاد تعدّ على أصابع اليد. كلمات هجينة، مبتذلة وارتجاليّة يصعب تصنيفها لا ضمن الشّعر الموزون ولا الحرّ الذي له هو الآخر قواعده وأطره. هذا الأمر يجعلنا أمام مفارقة عجيبة، فالذّاكرة الشّعبيّة في تونس مثلا تحفل بإبداعات بالكاد نحصيها، من المرحومة صليحة الى السّيدة نعمة الى علي الرياحي وشافية رشدى وسلاف الى الفنّ البدوي التّونسي الأصيل... والقائمة تطول لكن رغم ذلك أغلب إبداعاتهم طواها النّسيان وظلّت مجهولة، بينما أغاني أخرى يلمع نجمها على الرّغم من افتقارها للإبداع لحنا وكلمة وأداء؟ أمام هذه المفارقة نتساءل هل أنّ فعلا وسطاء الأغنية أصبح لهم اليوم شأنا كبيرا في صنع نجاح الأغاني أو فشلها، وإن أقررنا فعلا بهذا الأمر فلماذا نجد في تراثنا التّونسي عديد الأعمال المبدعة والخالدة يردّدها إلى اليوم القاصي والدّاني في غياب أيّة وساطة من أيّ نوع كانت؟
رمزي العياري: "المشهد الفنّي في تونس حاليّا يعكس الفوضى والبحث عن الذّات"
هذه المفارقة هي واحدة من التي دغدغت فضولنا عندما تحيّنت لنا الفرصة للقاء جمعنا بمعهد الصّحافة وعلوم الإخبار بالسيّد رمزي العيّاري المنتج والمنشّط بإذاعة الثّقافة من أجل البحث والتمحيص في عديد المسائل المتعلّقة بالحقل الثّقافي التّونسي لاسيّما منه الموسيقي. فأخذنا الحديث إلى مختلف المدارس الموسيقيّة التّونسيّة وكيف تأثرت السّاحة الثّقافيّة بعديد الإضافات والإبداعات، إلى جانب الحديث عن العوائق التي تقف حجر عثرة أمام الإبداع الموسيقي والفنّي عموما.
"المشهد الفنّي في تونس حاليّا يعكس الفوضى والبحث عن الذّات" هي الجملة التي وصف بها السيّد رمزي العياري الحالة التي ميّزت حاليّا القطاع الموسيقي في تونس، وهو يعني بذلك الموجة التي برزت بعد ثورة 14 جانفي 2011 والتي تربّع فيها "الرّاب" على عرش ما يسمّى بالأغنية الشّبابيّة، مسيطرا على ذائقة الشّباب الرّافض والمتمرّد لكلّ ما كان سائدا من أنظمة سياسيّة كليانيّة واجتماعيّة مهترئة وأنماط عيش لم تعد تلبّي له احتياجاته. فهرع ينشد البديل في "ثقافة الشّارع" على حدّ تعبير المنجي الزيدي في دراسة سوسيوثقافية أصدرها عن مركز النّشر الجامعي سنة 1907، فتعرّض إلى الأسباب التي جعلت " الرّاب " هو النّمط الطّاغي في صفوف الشّباب بعد الثّورة، وهنا خلص الكاتب إلى التّلقائيّة في ارتجال اللّحن والكلمة في هذا الجنس الموسيقي الحديث.
الرّاب من المنع والقمع إلى الاكتساح
فلئن بات الرّاب متنفّسا للشّباب وملاذا له نحو الحريّة والانعتاق من السّائد والمألوف، فإنّ نجاحه واكتساحه بهذه الكيفيّة لا يعزى أبدا إلى الصّدفة التي حوّلته من فنّ ممنوع ومقموع إلى الفنّ الأوّل في تونس، وإلّا ما كنّا لنتحدّث عن نجوميّة عالميّة لبعض فنّاني الرّاب مثل فريد المازني الذي اشتهر باسم "فريد Extranjero". وقد اصبح من أكبر فنّاني الرّاب في اسبانيا التي لجأ إليها بسبب تضييق الخناق على ما يقدّمه من أعاني ناقدة للأمن، هذا إلى جانب "الجنرال" الذي اكتسب شهرة عالميّة إذ "تم اعتباره أحد أكثر 100 شخصية تأثيرًا في العالم سنة 2011 بعد إصداره أغنية "رايس البلاد". نحن إذا أمام حقيقة لا يمكن إنكارها وهي المتمثّلة في نجاح "الرّاب" رغم وجود إرادة ممنهجة لمنعه وقمعه سواء قبل الثّورة وحتّى بعدها.
غير أنّ ذلك لم يحول دون مواصلة النّجاح والاكتساح، وقد أرجع السّيد رمزي العيّاري أثناء لقائه بطلبة معهد الصّحافة أسباب ذلك إلى التغيرات التي طرأت على تركيبة المجتمع التّونسي الذي نشأت في أغلب أحيائه ما يسمّى بالأحزمة الموسيقيّة، بطريقة تجعل كلّ حيّ سكني تروج وسطه أغاني معيّنة دون غيرها. والرّاب على حدّ تعبيره أصبح في المخيال الوطني مرتبطا بالأحياء الشّعبيّة مثل حي التضامن، الملّاسين، جبل الأحمر وغيرها. وقد لعبت هذه الأحياء المحرومة من التّنمية ومن العدالة الاجتماعية دورا بارزا في رواج الرّاب الذي يعبّر عن مشاغل الأغلبيّة "المسحوقة" اجتماعيّا. بمعنى آخر يمكننا القول إنّ الأحياء الشّعبيّة بكثرة تداولها لفنّ الرّاب ساهمت في إشعاعه وبالتّالي صعدت هذه الموجة سريعا مثلما صعدت في سبعينيّات القرن الماضي موجة "الهيبي" و "الهيب هوب" في الولايات المتّحدة الأمريكيّة للتّعبير عن مشاغل الطّبقة المحرومة من أسباب العيش الكريم.
ما ذهب إليه السيد رمزي العيّاري يعدّ منطقيّا خصوصا إذا فكّرنا في المسألة من مقاربة سوسيوثقافيّة تبرز تفاعلات الإنسان مع الوسط الذي يعيش فيه وهنا نستحضر ما يقوله دركايم من أنّ كلّ ثقافة تحدّد سمات مشتركة وخصوصيّة تمنح أفرادها هويّة خاصّة. ما يرجّح القول بانتماء كلّ مجموعة بشريّة لأجناس موسيقيّة ما تعبّر عن خصوصيّاتها وانتماءاتها الفكريّة والاجتماعيّة، وبالتّالي تحاول جاهدة الانتصار لتلك العناصر حفاظا على تلك الخصوصيّات، وهي بذلك تؤدّي بامتياز دور الوسيط الذي يعمل على رواج الجنس الموسيقي الذي تنتمي إليه. ولئن كان رواج فنّ الرّاب في بلادنا يعزى إلى وساطة اجتماعيّة إلى حدّ ما، غير أنّ المسألة يمكن النّظر إليها من زاوية ثانية تجعلنا نرشّح البعد التّقني في صنع نجاح " الرّاب " وتغلغله داخل الأوساط الشّبابيّة.
فإذا ما اسلمنا بعد النّظر والتّنقيب بغياب لشركات الإنتاج الضّخمة ولأصحاب رؤوس الأموال كدافع رئيسيّ في صنع مجد النّجوم، ووسائط للترويج لفنّ الرّاب فإننا نقرّ بدور التّكنولوجيا الكبير في هذه المهمّة. "فالميديا الجديدة" تحوّلت إلى منظومة يستخدمها نجوم "الرّاب" في التّواصل مع الجمهور، وأصبحت تتيح للأفراد إدارة علاقاتهم كما تهيّء لهم الظّروف الملائمة للتّفاعل وإنتاج المضامين وهو ما يستثمره هؤلاء النّجوم لمزيد الانتشار والتّوسّع عالميّا باستخدام التّطبيقات التّكنولوجيّة التي يتيحها الانترنت من خلال الفيسبوك، الانستغرام، التويتر. ونورد هنا كمثال على ما قلناه "أغنية الراب الجديدة «حوماني» التي حقّقت نجاحا كبيرا وكذلك أغنية بلطي الأخيرة مع الطفل حمودة " يا ليلي التي حققت أكثر من 200 مليون مشاهد على منصة اليوتوب.
المقاربة التّكنولوجيّة مهمّة جدّا لفهم سرعة رواج فن "الرّاب" غير أننا لا يمكن أن نجزم بنجاحها منفردة لو لم تكن هناك أرضيّة ملائمة قد تأسّست وسط الأحياء الشّعبيّة الكادحة والمهمشة التي وجدت في أغاني الرّاب ترجمة لما تشعر به من اقصاء. ويبقى العامل التّكنولوجي من هذا المنظور مجرد وسيط تقنيّ حفّز انتشار ظاهرة منحها الوسط الاجتماعي الذي خرجت من رحمه معنى ودلالة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى ضرورة توخّي الحذر من إمكانية تمجيد العامل التّقني الى حدّ الانزلاق في متاهات الحتميّة التّكنولوجيّة، كما لا يجب تعظيم دور العامل الاجتماعي الذي يظلّ على أهميّته عنصرا من العناصر المحفّزة لنجاح "الرّاب". فكلا العاملان مكمّل للآخر.
رمزيّة الطّبل كواسطة تحقّق التّواصل
اللّقاء الذي جمعنا مع السيّد رمزي العيّاري جعلنا نتساءل عن الممارسات الثّقافيّة ذات التّقاليد الشّفويّة خصوصا عندما قادنا النقاش إلى نمط موسيقيّ ولد من رحم التّجارب الذّاتيّة لفئة بشريّة ما وفي إطار سياق ما. ونعني هنا الفنّ الشّعبي "البدوي" الذي يشير محاضرنا أنّ ظهوره ارتبط ببعض الأنشطة الاقتصاديّة الموسميّة، كمواسم جني الزّيتون والتّمور. إذ كانت هذه الأنشطة تستوجب الحلّ والتّرحال بين ربوع الشّمال والجنوب التّونسي حسب ما تقتضيه الظّروف الطبيعيّة والنّشاط الاقتصادي الموسمي. ومع كلّ حلّ وترحال تكون الموسيقى حاضرة بامتياز ومصاحبة للأهالي في جميع تنقّلاتهم، يدمجونها ضمن أنشطتهم الاقتصاديّة الدّوريّة، وتتّخذ طابعا احتفاليّا تختصّ به تلك المجموعات البشريّة أثناء عمليّة الجني وبعده، وتعكس حياة البدو الخالية من التّعقيدات، وغالبا ما تكون الأغاني المردّدة محفورة في ذاكرة كلّ فرد من أفراد العشيرة يردّدها بتلقائيّة وصوت نقيّ مسترسل دون اللّجوء في كثير من الأحيان إلى الآلة الموسيقيّة التي وإن وجدت فهي لا تتعدّى حدود الطّبل والمزمار أو الناي.
هذا الأمر يأخذنا نحو طرح تساؤل آخر يتمحور حول رمزيّة "الطّبل" كواسطة في تحقيق عمليّة التّواصل الإنساني قديما وأيضا حديثا في بعض المناطق الدّاخليّة. فالمجتمعات القبليّة لم تعرف الوساطات التّقنيّة الحديثة التي ظهرت مع ظهور الانترنت، كما لم تعتمد على سلطة المال والأعمال كوسائط تساهم في تحقيق انتشار واسع لأغنية ما، لكن رغم ذلك كانت العديد من الممارسات الثّقافيّة تتنقّل بين ربوع البوادي بنسق سريع بالاعتماد على ملكة الحفظ التي تميّز بها البدو نتيجة صفاء الذّهن من كلّ التّعقيدات التي تخيّم على سكّان الحضر استنادا إلى ما أشار إليه ابن خلدون في مقدّمته الشّهيرة.
فدقّ الطّبول هي من الممارسات الاجتماعيّة العريقة، والطّبل ينتمي إلى آلات الإيقاع. وقد ارتبطت استعمالاته في تاريخ الأمم بالإخبار، إذ كان الملوك والسّلاطين في العصور الغابرة يستخدمونه كوسيط بينهم وبين القصر، وآلة التّواصل الفعّالة المحفّزة على التّركيز والانتباه لما يريد المنادي – وهو مبعوث القصر الملكي –تبليغ"الرّعيّة" به. إذن ارتبط وجود الطّبل بمفهوم تواصلي، وبقي محافظا على هذه المهمّة إلى عصرنا الحالي لدى بعض المجموعات البشريّة في الأرياف التّونسيّة، تستخدمه في أفراحها وطقوسها للإخبار أو الإيذان ببداية الاحتفال بالأعراس. فجزيرة جربة مثلا تعرف بإيقاع "الفزّاعي" الذي يمثّل إحدى أهمّ طقوس الاحتفال ويعتبر فيه الطّبل الآلة الموسيقيّة الأساسيّة الحاضرة بامتياز من أجل الإخبار والإيذان بانطلاق مراسم الاحتفال، وحال دقّ الطّبل ترى الأهالي تهرول فرادى وجماعات للالتحاق بالمحفل.
سرد رسائل الحبّ بالمغنى
هذه الممارسات الثّقافيّة ما زالت إلى حدّ الآن متداولة في محافل البوادي، وقد أشار السيّد رمزي العيّاري في سياق حديثه عن الفنّ البدوي إلى تمازج الجانب الاجتماعي مع البعد الفنّي والجمالي في تلك المناسبات التي كانت تحبك من خلالها أساطير ما سمّاه "بالحبّ المخفي" إذ مثلما كانت تلك الاحتفالات مناسبات تتاح للفرح وكسر الرّتابة والملل، كانت من جهة أخرى مناسبة للتّواصل مع الحبيب والتّناجي برسائل الغزل و العتاب أحيانا أو ترجمة وجع ما بواسطة المغنى أحيانا أخرى، وهنا تكون الأغنية المؤدّاة إمّا ترجمة لأحاسيس قائلها أو أنّ هذا الأخير قد حمّل مسبقا برسالة من عاشق ولهان لحبيبة اعتادت الهجر والجفاء فيكون مؤدّيها في هذه الحالة واسطة ناقلة للرّسالة، ومنتظرا لرجع الصّدى الذي قد يأتي من الحبيبة إمّا برسالة غنائيّة ثانية تردّ بها، أو بإشارات ورموز للحبيب كدلالة منها على أنّ رسالته قد تمّ استلامها وتشفيرها، فيكون الواسطة هنا قد حقّق نجاحا في هذه العمليّة التّواصليّة بين الحبيبين.
التّواصل بالمغنى في المحافل كان كفيلا بنجاح الأغنية رغم عدم اعتمادها على الوساطات التّقنية ولا على وساطة مديري الأعمال ولا شركات الإنتاج أيضا، فإلى حدّ الآن ما زالت أغاني الفنّ الشّعبي البدوي متداولة بطريقة تجعل كلّ جهة تعرف بأغانيها وموروثها الثّقافي الموسيقي الذي تردّده كلّ الأجيال ففي المغرب الأقصى لا يزال الى حدّ الآن البدو الرحل يجتمعون في"محاميد الغزلان" - وهي منطقة صحراويّة مغربيّة - لسرد تجارب حياتهم بالموسيقى.
كما أنّ الأغنية التّونسيّة المأخوذة من التّراث "يامّا لسمر دوني" على سبيل المثال لا يزال صداها متواصل إلى حدّ الآن، وقد أضاف لها التّوزيع الجديد بأداء الفنّانة "أسماء العثماني" طابعا خاصّا وهنا تكمن أهميّة الجانب التّقني في مساهمته في إحياء الموروث شرط أن يظلّ الطّابع الابداعي في الأغنية قائم الذّات ولا يتمّ تشويهه بالصّخب الآلاتي على حساب المضمون وهنا تكون التّكنولوجيا امتدادا للحاسّة الذّوق الفنّي فينا بطريقة تستحسنها الحاسّة السّمعيّة.
سيّدة التّابعي