جمال الكلام والكلام عن الجمال : بين أدبيات شارل بودلير وأشعار الصغير أولاد أحمد
الجمال مجال الفن والذوق الرفيع. أما جمال الكلام فهو مقترن بأساليب وتقنيّات تصوّر أناقة اللّفظة بديعًا وبلاغة وإيقاعًا وصوتا ومعجما وصورا وتراكيبا حسب المنوال والمعنى والصيغة. الكلام عن الجمال هو وليد شعورية مرهفة وذوق عال، ولعلّ هذا ما ميّز أدبيات شارل بودلير الذي صيّر منها كلمات منضّدة على شاكلة نثر مسجّع خلق بها غنائية فريدة. يعتبر بودلير أنّ الخبرة الجمالية قائمة بالأساس على إثارة بهجة الإنسان وإعجابه بالجماليات والمحاسن والشهوات، خلافًا لأشعار الصغير أولاد أحمد الذي أبدى في غالبية قصائده ثورة ورفضا للواقع السياسي ناقدا بل ساخرًا من المعيش والمعاش وفي نفس الوقت هو يدعو لحب البلاد بطريقة أخرى.

أما الحكم الجمالي فهو إنساني صرف موثوق بالمتعة. فالجمالية تُطرح لتساءل الراهن بكل نزاعاته ومكنوناته تساؤله من أفق إنساني. الحكم الجمالي ليس هو ذاته الحكم الأخلاقي لأنّ فكرة الجمال تختلف عن فكرة الخير فهنالك فرق جليّ بين الجميل والجليل. وقد ميّز الصغير أولاد أحمد بينهما فالجلال هو مجال للعظمة المرتبطة بحالات نفسية تمثّل الرهبة والخوف والخشية والرّعب بينما الجمال فهو يخلّف حالات التذوق والمتعة والراحة النفسية.
بودلير وأولاد أحمد يلتقيان في محاربة اللامعنى بالفن
يقول أولاد أحمد في قصيدة ترانيم الأطلس معرفًا "القصائد: أزمنةٌ لا مكانَ لها... حروف تكاد تقول لقائلها: من أنا؟"
بودلير والشاعر أولاد أحمد يلتقيان من حيث نمط العيش القائم على نزعة الترك البوهيمية واللامبالاة الهلامية إضافة إلى الحياة المأساوية التي اشتركا فيها طوال حياتهما. إلّا أنّهما قد اختلفا في أساليب الطرح يقول بودلير: "لقد أعطيتِني طينك، فصنعتُ منه ذهباً"، فهو يصيّر من القبح جمالًا أمّا أولاد أحمد فقد أخرج بجمال كلماته قبح أنظمة الاستبداد. يقول أولاد أحمد في قصيدة قلق "بلد هشّمه الأحياء بالموتى" وهنا إحالة عن سعيه لكسر التفكير الماضوي المَيْت لتأسيس أفكار ثورية رافضة للتبعية والعبودية رغم جميع أشكال الهرسلة والسجن التي تعرّض لها.
اتّسم كلا الشّاعرين بعلامات التّخبط المصحوبة بطابع السّخرية من الأوضاع الاجتماعية فأتيا بمعاني الفخر وذلك بتوسّلهما لضمير المتكلّم المفرد "أنا" حريصين على تنويع صور ألفاظها وأشكال بناها فعمدا إلى تقديم الصّفة على الموصوف في أغلب قصائدهما. هذا بالإضافة إلى الوصف الكنائي إذ يرجع على الكلّ بالجزء وعلى الكثير بالقليل، يقول بودلير "لقد أحسستُ منذ طفولتي بإحساسين متناقضين... رعب من الحياة، ونشوة الحياة" كما عبّر أولاد أحمد باستدراك عن اسم ديوانه الشعري الثاني المعنون ب"ولكنّني أحمد" وهذا تعبير صريح عن رغبة الشاعرين في تغيير الأوضاع الاجتماعية قبل الذاتيّة.
بودلير وفنه في الجمع بين المتنقضات
وبصرف النظر عن جميع المناهج النّصانية والبلاغية، فإن بودلير قد أبدى نبوءة فريدة من حيث الأسلوبيّة المعتمدة على مرونة التراكيب والصور الشعرية فاشتغل على الجمع بين المتناقضات (جمالية القبح) في أعماله الشعرية من قصيدة ربّة الشعر العليلة "الشَّيْطَانَةُ الْخَضْرَاءُ وَالْعِفْرِيتُ الْوَرْدِي" ولعلّ أشهرها ديوان "أزهار الشّر"، فقد أسّس لخاصيّة الضدّية في أغلب قصائده شأن "الرّغبة الحسّية" و"الجثّة المتحلّلة" إذ يتبين الناظر في النصّ فصاحة الصوتيات بين الإيقاعين الداخلي (توسّله الجناس والسجع والطباق) كما الخارجي (توحيد القافية) ليكسبها غنائية فريدة بذاتها، فيمَا انتهج تقنيتي "التخييل والتداول" خاصّة في قصيدته الأشهر "الجيفة" بغية إنتاج القيم الجمالية والمعاني الوثائقيّة.
واعتمد بودلير على خصوبة مخياله في السرد والوصف فعزّز الجانب الرّمزي متوسلًا الاستعارات والمجازات والتشبيهات والتراكيب اللغوية متخلّيا عن القداسة الطوباوية في الشعر بل ثار أسلوبيا عن الجمالية المثالية منها والمأساوية، يقول في إحدى قصائده "هَكَذَا كَفَاجِرٍ بَائِسٍ يُقَبِّلُ وَيَلْتَهِم... الثَّدْيَ الشَّهِيدَ لِعَاهِرَةٍ عَتِيقَة، نَخْتَلِسُ – فِي الطَّرِيقِ – لَذَّةً مُحَرَّمَةً، نَعْتَصِرُهَا بِقُوَّةٍ كَبُرْتُقَالَةٍ قَدِيمَة."، إذ قوبلت في البداية جلّ أعماله الشعرية بالرفض والاستهجان معتبرين أنها قصائد مخلّة بالأخلاق الجمعية وبالذوق العام.
أولاد أحمد وفنه في إعادة صياغة واقع عسير
فرّق الصغير أولا أحمد بين التقرير والإيحاء "أحب ثلاثة ماتوا... أبي والموت والشعر العظيم" هكذا عبّر أولاد أحمد عن انطباعه حول وضع الشعر اليوم، فذاتية الفنان مجالها الإبداع والخلق والعبقرية. تميز أولاد أحمد في استخراج المعنى من اللّامعنى ويكون ذلك من زاوية العقل ولهذا الفنّان لا يحاكي الواقع فحسب بل وإنما هو يتميز بالعبقرية. بواسطة شخصيته وأعماله كان صغير أولاد أحمد يؤمن أنّ الفنان ربّ وسيّد على خلقه ألا وهو الشعر والكلمات والكلام. كلماته هي نقد للمجتمع وكذلك دفاع عن المهمشين. عمل صغير أولاد أحمد يعكس حضارة. هو فنّا ملتزمًا يعبر بمقتضى الواجب عن هموم الناس فيتحوّل العمل الفني إلى نّضال وثّورة. أولاد أحمد يؤمن يقينا أن الفنّ الحقيقي ثوري أو لا يكون. هو فن يخرج صاحبه من نرجسيته وأنانيته ليطال قضايا الواقع وشواغل الناس.
من الضّروري إذن أن يخرج العمل الفنّي من فردانيته المغلقة ليصبح فنّا موضوعيًا يعبر عن ماهو موجود ولهذا يتغلغل الفنّ في شواغل الناس. وقد عُرفت كتابات بودلير وأولاد أحمد بالقدرة على الإقناع بالقول وذلك اعتراف ضمنيّ بعمق الجمال في هذه التعبيرات. عبر العودة على هاتين التجربتين نرى في الختام أنه إذا كان العمل الفني مرتبط بالعبقرية فهو أيضا لعب عقلي ولذة ذّهنية مما يجعل هذان المبدعان يولدان دائمًا من جديد.
Comments