عرض قمر مكتمل للمخرج المجري جوزيف نادج : حركة الجسد ورمزية السلطة...رقص وطقوس وتسلط
قدم عرض قمر مكتمل Full Moon، للمخرج المجري جوزيف نادج Josef Nadj، تجربة فنية ضمن الدورة 25 لأيام قرطاج المسرحية، بمسرح الأوبرا مدينة الثقافة تونس بتاريخ 26 نوفمبر 2024 حيث انصهرت الجماليات البصرية مع المضمون الفلسفي، ليعيد التفكير في معاني الحرية والهيمنة، مستعينًا بالجسد كأداة محورية للسرد. هو عرض استثنائي بكل المقاييس يعبر عن تاريخ أنثروبولوجيا الرقص والحركة في افريقيا وكذلك في عَلاقة هذه القارة بالآخر الغازي. كل هذا دون أن ينطق الممثلون ولو بكلمة واحدة.
الجسد ميدان للصراع والتحرر
الجسد في هذا العمل ليس مجرد وسيلة تعبير، بل هو ميدان للمقاومة والتحرر. جسد الرجل الأبيض، الذي يرتدي قناعًا ولباسًا مغايرًا عن البقية، يمثل الهيمنة الاستعمارية "الناعمة". يتحكم هذا الرجل في أجساد الرجال الآخرين، يحركهم بخيوط غير مرئية، يعزلهم حينًا ويدفعهم للتصادم حينًا آخر. على الطرف الآخر، كانت حركات الرجال تتنوع بين القفزات التي تلامس السماء والانحناءات نحو الأرض، لتخلق ثنائية تجمع بين السعي للتحرر والعودة إلى الجذور. هذا التناقض الحركي يبرز الصراع بين من يسعى للتحكم ومن يناضل للانعتاق، ليضع المتلقي أمام مشهدية تجسد رحلة التحرر الأفريقية. جماليا بدا جليا رفعة مستوى هذا العرض عبر الطقوس المقدسة وحركات الأقدام والتكشيرات والصرخات. الراقصون إحتلوا المكان واستخدموا أجسادهم كأدوات لاكتشاف أنفسهم والعودة إلى منابع الرقص. إيقاعات متقطعة، ثم فجأة نحاس وصنج. ركبتان تهتزان، وأفواه مفتوحة، وعيون تتحرك، وحشرجات وطاقات تفرغ الجسد من سموم الضغط اليومي والتفكير المفرط...لمدة ساعة كاملة دون انقطاع، مصحوبة بإيقاعات من الموسيقى الأفريقية وموسيقى الجاز جعلت الجمهور منومًا مغناطيسيًا بالطاقة والطبيعة المشفرة لحركة الراقصين، سواء كانوا فرادى أو في مجموعة.
من استعمار مباشر إلى هيمنة خفية
العمل يبتعد عن الصور النمطية التي تُظهر الاستعمار في عنفه المباشر أو أبطاله المقاومين. هنا، الاستعمار يتحرك في الظل، يمارس سلطته دون أن يظهر كثيرًا، بينما تغرق الشعوب في صراعات داخلية تعيق أي محاولات للوحدة. مع ذلك، تنجح المجموعة في كسر هذه الهيمنة. مشهد النهاية، الذي يشهد إلباس الرجل الأبيض القناع الأفريقي، يمثل لحظة رمزية لاستعادة الهوية والسيادة، حيث يتوحد الجميع في حركة جماعية تختزل معنى التحرر.
الموسيقى والرمزية البصرية
الموسيقى في العرض لم تكن مجرد خلفية، بل جزء أساسي من السرد. الإيقاعات الأفرو-أمريكية، بدقتها وتنوعها، كانت تحرك عجلة الدراما، وتخلق إيقاعًا يتناغم مع الحركات الجسدية، ما أضاف للعرض عمقًا وديناميكية. كذلك، جاءت الإضاءة لتبرز اللحظات المفصلية، في حين اعتمد العرض على أدوات بسيطة مثل الأقنعة والخيوط، لكنها كانت كافية لتجسيد المعاني الكبرى التي طرحها المخرج.
رسالة حضارية وإنسانية
لا يقتصر العرض على طرح صراع بين الأبيض والأسود، بل يتجاوز ذلك ليقدم رؤية حضارية تدعو إلى التكامل الإنساني. لحظة إلباس الرجل الأبيض القناع الأفريقي تعبر عن رسالة واضحة: الحضارة البشرية لا تكتمل إلا بنبذ التسلط واحترام التنوع. يبقى غياب المرأة على الركح نقطة تستدعي التأمل. لماذا غاب الجسد الأنثوي عن هذه الحكاية؟ وهل يمكن تحقيق التوازن الحضاري دون مشاركة النساء؟
قمر مكتمل هو ختامًا عمل كوريغرافي يتخطى الجماليات الفنية ليخاطب قضايا إنسانية عميقة. بواسطة الجسد والإيقاع والموسيقى، يقدم المخرج رؤيته حول التحرر والتنوع، في دعوة للتفكير فيما يجمعنا كبشر، وما يجعل الحضارة مشروعًا مشتركًا للجميع. عبر سحر الجسد والإيقاعات والترجمة الأصيلة للراقصين، يشيد عرض ”اكتمال القمر“ لجوزيف نادج إذن بالثقافة الأفريقية والتلاقح والاختلاف والفن كوسيلة للتحرر وتأكيد الجذور في عصر الإمبريالية.
Comments